تحول واضح في استراتيجية وزارة العدل الأمريكية في التعامل مع العملات الرقمية

في السنوات الأخيرة، تزايدت أهمية تنظيم العملات الرقمية في الولايات المتحدة. يعود ذلك إلى التوسع المستمر في استخدامها وتطور تقنياتها بشكل لافت. وفي هذا السياق، أعلنت وزارة العدل عن نهج جديد يركّز على محاربة الفاعلين السيئين عوضًا عن ملاحقة المنصات الرقمية. في المقابل، اتخذت بعض الولايات، مثل نيويورك، مواقف أكثر تشددًا تدعو إلى فرض قيود صارمة على أدوات الخصوصية الرقمية.
خلفية المذكرة: التحول في استراتيجية وزارة العدل
في أبريل 2025، أصدر نائب المدعي العام تود بلانش مذكرة جديدة تُعيد توجيه استراتيجية وزارة العدل بشأن الأصول الرقمية. هذه المذكرة، والتي أصبحت تُعرف باسم “مذكرة بلانش”، تهدف إلى إيقاف ما يُعرف بـ”التنظيم عبر الملاحقة”. ووفقًا لذلك، لن تستهدف الوزارة المنصات الرقمية، أو خدمات خلط العملات، أو المحافظ غير المتصلة بالإنترنت، إلا في حال توافرت أدلة قاطعة على نية إجرامية واضحة.
تنسجم هذه السياسة مع توجيهات أمر تنفيذي سابق أصدرته إدارة ترامب. هذا الأمر يسعى إلى تمكين الأفراد والكيانات من استخدام شبكات البلوكتشين لأغراض قانونية، دون الخوف من الملاحقة القضائية. من جانب آخر، دعت المذكرة إلى الامتناع عن مقاضاة المخالفات التنظيمية، مثل تقديم أوراق مالية غير مسجلة أو تشغيل خدمات مالية دون ترخيص، إلا إذا ثبت أن الفاعل كان على دراية بالقوانين وتجاهلها عمدًا.
أولويات تنفيذية جديدة: استهداف الجرائم الحقيقية
بموجب هذه السياسة الجديدة، ستوجه وزارة العدل تركيزها نحو الجرائم الحقيقية. وتشمل هذه الجرائم الاحتيال المالي، وسرقة أموال العملاء، والمشاريع الزائفة (المعروفة باسم rug pulls)، والهجمات على المنصات والعقود الذكية. إضافة إلى ذلك، ستُعطى الأولوية للقضايا التي ترتبط باستخدام العملات الرقمية لتمويل الإرهاب أو دعم المنظمات الإجرامية العابرة للحدود.
هذا التحول لا يعني أن الوزارة تمنح المنصات الرقمية حرية غير مشروطة. على العكس، يُشجع هذا النهج على الامتثال الطوعي للقوانين من خلال الإرشاد والتعاون، بدلاً من استخدام أساليب الردع والعقاب. ويُسهم ذلك في بناء بيئة تنظيمية أكثر وضوحًا واستقرارًا.
نيويورك تتشدد: دعوات لضبط الخصوصية الرقمية
في المقابل، عبّرت المدعية العامة لولاية نيويورك، ليتيسيا جيمس، عن رفضها القاطع لنهج وزارة العدل الجديد. فقد وجّهت رسالة إلى الكونغرس الأميركي دعت فيها إلى سنّ تشريعات فيدرالية تلزم منصات العملات الرقمية بالامتثال للوائح مكافحة غسيل الأموال، وتعزيز إجراءات “اعرف عميلك”، وتطبيق بروتوكولات الأمن السيبراني.
كما طالبت جيمس بفرض قيود صارمة على تحويل العملات غير القابلة للتتبع إلى الدولار الأمريكي. وأثارت تصريحاتها جدلًا واسعًا، حيث وصفت تقنيات خلط العملات الرقمية بأنها “أدوات لغسيل الأموال”. هذا التوصيف أغفل استخدام هذه الأدوات في حالات مشروعة، مثل حماية النشطاء الحقوقيين والمتبرعين في بيئات قمعية. وبالتالي، عبّر العديد من المهتمين بالشأن الرقمي عن قلقهم من هذا الخطاب الذي يفترض الجريمة دون النظر إلى السياق.
تجاوب الهيئات الفيدرالية مع السياسة الجديدة
بعد صدور مذكرة بلانش، أعلنت عدة جهات تنظيمية دعمها للسياسة الجديدة. على سبيل المثال، وجّه القائم بأعمال رئيس لجنة تداول السلع الآجلة (CFTC) موظفيه بضرورة الالتزام بتوجه وزارة العدل، وعدم ملاحقة المخالفات التنظيمية ما لم تكن هناك نية واضحة للانتهاك. أما لجنة الأوراق المالية والبورصات (SEC)، فقد التزمت الصمت الرسمي، إلا أن تراجعها عن بعض الإجراءات التنفيذية الأخيرة قد يُعد مؤشرًا على تبنيها لنهج أكثر مرونة.
التحدي القادم: إيجاد توازن بين الابتكار والرقابة
تعكس هذه السياسات المتباينة رؤيتين مختلفتين داخل الإدارة الأميركية. من جهة، تسعى وزارة العدل إلى خلق بيئة قانونية تدعم الابتكار وتحترم الخصوصية الرقمية. ومن جهة أخرى، تتمسك جهات مثل مكتب المدعي العام في نيويورك بسياسات رقابية مشددة، تقوم على التصدي لأي احتمال لاستخدام العملات الرقمية في أنشطة مشبوهة.
يُبرز هذا التباين الحاجة إلى إطار تنظيمي شامل ومتوازن. يجب أن يضمن هذا الإطار تطور التقنيات الرقمية، مع حماية الحقوق الفردية، ودون التساهل مع الجهات التي تسعى لاستغلال هذه التقنيات في أنشطة غير قانونية. ويجب كذلك تشجيع المجتمع الرقمي على المشاركة في صياغة السياسات، من خلال الحوار والمساءلة.
دعوة للمجتمع الرقمي: لا تكن على الهامش
في خضم هذه التغيرات، تبرز مسؤولية مشتركة على الأفراد والشركات والمشرعين في رسم ملامح المستقبل الرقمي. لا يجب الاكتفاء بالمراقبة من بعيد. بل من الضروري الدفاع عن الحق في الخصوصية الرقمية، والمطالبة بسياسات عادلة توازن بين متطلبات الأمن ومبادئ الحرية. فالمستقبل يُبنى اليوم، والمشاركة الفعالة هي السبيل لضمان أن يكون هذا المستقبل أكثر عدلاً وابتكارًا.